Arabic تـعـلـيـق

فادي القاضي يكتب: دعوة للبقاء هنا.. لكن.. ما الذي يدفع للبقاء هنا؟


تم نشر هذا المقال في موقع زائد 18 يوم الخميس 23 أبريل/نيسان 2015 على الرابط التالي .. وهذا نصه


أكثر من ألف وسبعمائة وخمسون مهاجراً ابتلعهم البحر الأبيض المتوسط خلال العام الحالي 2015، وقد يكون عدد وقائع الموت، والذي أعلنت عن أرقامها منظمة الهجرة الدولية يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من أبريل/نيسان الحالي، أقل من الوقائع الفعلية، وربما بكثير. وفي الوقت الذي ثار فيه سخط وسائل الإعلام الغربية، ومعها منظمات حقوق الإنسان الدولية، إزاء آخر حادثة غرق لمركب يقل مهاجرين “غير شرعيين” قبالة السواحل الإيطالية، وأدى إلى مقتل ما يزيد عن 800 من ركابه؛ فهناك مسألتان بحاجة إلى التدقيق: أولهما من دون ريب؛ المسؤولية السياسية لحكومات دول الاتحاد الأوروبي، والتي أدت إلى المزيد من إغلاق الحدود في وجه القادمين من الجنوب (أفريقيا والشرق الأوسط) وما نجم عن هذه السياسات من حركة غير مرئية لأفواج من البشر، عبر البحر وغيره، باتجاه دول الاتحاد طلباً لمعيشة أفضل، لفرصة أخرى في حياة مستقرة، أو بكل بساطة هرباً من موت الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة، وثانيهما، يتعلق بالضبط بسبب الهجرة والنزوح من دول المصدر، ومن هذه دولٌ في المحيط العربي. واختار أن أناقش الشق الثاني من المسألة على اعتبار أن به من الشجون الداخلية ما لا يستطيع أهل القارة في أوروبا فهمه أو تفهمه أو كلاهما، أو هكذا على الأقل أعتقد.


والسؤال الأكثر مرارة، لا يكمن في بطون آلاف الدراسات البحثية والتوثيقية الدائرة في فلك تقصي أسباب الهجرة والنزوح من دول المحيط العربي، بل يتجلى في سؤال عكسي مفاده: ما الذي يدفعُ أصلاً للبقاء؟


النزاعات المسلحة، والتي كانت في الأصل “ثورات” أو “انتفاضات” قبل سنين أربع، لا تدعُ أساساً مجالاُ للتساؤل.. قعقعة السلاح من ليبيا إلى سوريا والعراق إلى اليمن، تضع كل أب وأم على محك اختبار ذو طبيعة جهنمية ومحزنة.. إن بقوا في بلادهم، فبقاء الأطفال على قيد الحياة يصبح هاجساً، وبقاؤهم هم على قيد الحياة لإعالة وحماية أطفالهم هاجسٌ آخر لا يقين معه. ومن السهل أن تتصدر الصحف ووسائل أنباء مقتل عشرات، مئات، آلاف، الآباء والأمهات والأطفال في مجزرة ارتكبها نظامٌ أو فصيلٌ سياسي، أو في قصف جوي، أو بالغازات أو قتلاً بالسكاكين وبالحراب كما فعل إرهابيو داعش وإرهابيو أنظمة مازالت على قيد الحياة. إلا أن ذلك لن يعيدهم إلى الحياة، ولا يوفر طمأنينةُ لأي عائلة أو أسرة، ولو كان الخيار دائماُ متاحاُ، لاختارت الأسرة الذهاب بأطفالها إلى مكان أكثر أمناً.


ومن باب الحديث عن أغلى ما يملك البشر، وهو الحياة، فليس من الواقعي أبداً الافتراض بأن وقائع قتل المتظاهرين بالرصاص الحي، عن سبق إصرار وترصد، أو القاء القنابل المسيلة للدموع عليهم على نحو مميت، أو سحلهم أو ضربهم بأعنف ما يمكن هي من الأسباب التي تدعو شاباً أو شابةً إلى الرغبة في الانخراط في مساحة سياسية لم تعد موجودة أصلاً. والحديث عن الانخراط في الفعل السياسي والاجتماعي ليس معقداً كما تصوره أفسد الحكومات؛ هو في أبسط أشكاله أن يتمكن الشباب من إيجاد موطأ قدم لهم في خارطة المجتمع، لأن ذلك هو الأصل وليس الاستثناء. في مجتمعات أخرى، ينخرط الشباب في القتال، دفاعاً عن النفس والأسرة والمجتمع، أو تحت إمرة أنظمة قاتلة، أو تحت راية فصائل لها من الألوان ما تعجز ألوان الطيف عن حمله، أو ضد احتلال.


ومن باب الحديث عن مستلزمات المجتمعات، ما دأبت أجيالٌ من مفكري “الموت مع الناس نعاس” على تسميته بـ “الترف”، وهو حرية التعبير.. لم يعد مقبولاً بأي مقياس معاصر، محلي أو إقليمي أو دولي، أن يتم محاسبة الناس واضطهادهم بسبب آرائهم. إلا أنه يبدو أن معادلة العقد الاجتماعي الموجودة الآن في دول المحيط العربي تفترض بأن ذلك مقبول، بل من متطلبات العيش والتعايش في مجتمعاته. في دول الخليج تنعدم مساحة المجتمع المدني لتسود مكانها مساحةٌ يهيمن عليها الحاكم وسلطته، ولا آراء هناك غير تلك التي تنسجم مع سطور التوجه السلطوي السائد.. في المجتمعات التي توافرت بها مساحات مدنية، جاء جنودٌ وآخرون بثياب فكر مدني وأغلقوها بقوانين وتشريعات تارةُ، وبممارسات تتناقض حتى مع تلك التشريعات في تارات أخرى. لم يتركوا للشاب والشابة، والرجل والمرأة، غير مساحة من ضيق العيش لا يستطيعون حتى التذمر منها.


وآخر ما أرغب في نقاشه هنا في هذه العجالة المكتوبة، هو فكرة التنمية والنمو. من سنوات أربع، ودول محيطنا العربي، تنفق مالاً لمواجهة اتساع ظاهرة الحراك الجماهيري، طبعاً الى أن تمكنت من خنقه تماماً. وهذا لا يعني أن ما كانت تنفقه في الماضي كان يذهب لمصلحة رفاهية وصحة واستدامة سبل العيش لمواطنيها، بل على العكس من ذلك. هناك دولٌ لم تعد موجودة أصلاً على شكل “دولة”، وهناك دول أخرى تنفق على الحروب والطائرات والتسلح على أرض دول أخرى، ومن أجل مصالح لا تتسق بالضرورة مع أولويات المجتمع التنموية (التي تسقط في جب النسيان غالباً).


ما الذي يدفع للبقاء اذن؟ هذه ليست دعوةً للهجرة، ان كان أصلاً خيار الهجرة متاحاً، إلا أنها دعوةٌ للتفكر، حتى ولو على مقعد المقهى، بما كنت ستقوله أو تقولينه لابنك أو ابنتك إن تم طرح السؤال.. التلعثم مسموحٌ به، والتأتأة كذلك، لكن من غير المسموح به اختلاق أسباب غير موجودة وكاذبة في أحسن الأحوال. انها مسؤولية شخصية، وأبوية (أباً وأماً) إن شئتم، والكرة في ملعبنا، في وقت خسارة.