Arabic تـعـلـيـق

مقال كل يوم …. قتل المدنيين: العقل العربي الجمعي راهناً وصفةٌ جامعةٌ للكذب والخديعة


لا يعرف العقل العربي الجمعي معنى لـ “المدنيين” ولا يستطيع التمييز بين من انخرطوا في آلة الحرب جنوداً وعاملين ومُسندين، وأولئك الذين لم يفعلوا. ويتوقف هذا العقل عند فكرة العدو باعتبارها حقيقةً صماء غير قابلة للدحض أو النقاش. ويستسهل هذا العقل تجريد الأشياء الى درجة احتساب من لم ينخرطوا في العمل الحربي والعسكري، على جهة “العدو”، باعتبارهم مؤيدين يجب أن ينالهم من المعاملة ما يناله من يقاتل في صفوف جنود العدو.

ولا يُقيمُ هذا العقلُ وزناً للقانون، كون القانون فكرة غريبة وغربية وبدعة في أحسن الأحوال. ويستمرؤ العقل العربي الإدعاء بخوضه حرباً أخلاقية ضد خصوم لا أخلاق لديهم أو لهم. إلا أنه، في واقع الأمر يرتكب من الخطايا ما يجعله أقل خُلقاً وأخلاقاً من خصومه المفترضين.

العقل العربي الجمعي بصورته الراهنة المزمنة، يحمل وصفةً جامعةً للكذب، والاحتيال الممنهج والخديعة.

يرفض العقل العربي قانون الأمم الذي يُحرمُ قتل المدنيين تحت أي ظرف، ويُجادلُ بالشمس والقمر وما بينهما أن هؤلاء يجب قتلهم لأنهم أعداء (روافض مثلاً من جهة، أو تكفيريين من جهة أخرى، أو غربيين كفرة من جهة ثالثة)؛ وإن قبل هذا العقل الاحتكام لمبدأ احتساب المدنيين، أي من لا يجوز قتلهم، ستجد حامله (أي العقل) يستنهضُ كل الأحابيل والحيل لاثبات أنهم ليسوا كذلك، أي ليسوا مدنيين.

لكنهُ يستشيط غضباً ونقمةً وحنقاً حين يستهدف “العدو” مدنييه، ويقتل منهم الرجال والنساء والأطفال. وبامكانه في تلك اللحظة أن يستعين بقانون الأمم، ودهاء الأبالسة والأسماك في البحر الميت، للنيل من عدوه الغاشم القاتل المُغتصب.

أعادني مشهد التفجير الانتحاري الذي استهدف مدينة الصدر في بغداد صباح اليوم، 11/5/2016، الى فداحة المسألة. سقط 60 مدنياً على الأقل (لساعة كتابة هذه السطور) معظمهم نساء قتلى اليوم بهذا التفجير، وهو ليس الأول من نوعه، وامتد مسلسل القتل الجماعي عبر أشهر وسنوات، في ربوع المنطقة العربية، وتمدد ليصل خارجها.

هناك كثرةٌ، إن لم نقل غالبيةٌ، تقبل أن يذهب المدنيون ضحايا لأعمال ترهيبية واجرامية كهذه، لسبب أو لآخر ورد ذكره في الأعلى، ويتحمل المسؤولية عنه ذلك العقل العربي الجمعي الذي ارتضى بازدواجية المعيار والأخلاق والقيم. “أين كنت حين راح أهلنا ضحايا لأعمال مشابهة من الطرف العدو” هو في الحقيقة اطارٌ ذرائعيٌ زائفٌ وغير مقبول، هدفه الأخير هو تعرية الجريمة من مضمونها الجُرمي واسباغ صفة الدافع النبيل أو الشرعي (المشروع) عليها.

وإلى أن يتوفر مشروعٌ جاد لإعادة صياغة مكونات العقل العربي الجمعي، فالتمسك بالقانون (وأخلاق القانون) هو كل ما نملك الآن.