Arabic تـعـلـيـق

فادي القاضي |مقال كل يوم | الجبهة العربية التقدمية..للضحك والنسيان وغياب الإنسان

أولاً، كتابُ الضحك والنسيان (1979) هو عمل روائي للكاتب التشيكي المولد ميلان كونديرا (اللاجيء الى فرنسا اعتباراً من العام 1975)، واستعرنا منه فقط العنوان لغاية في نفس يعقوب.

ثانياً، اعلان تأسيس الجبهة العربية التقدمية ليس جزءاً من أي عمل روائي، وهو حدثٌ وقع بالفعل في 15 مايو/أيار الحالي، حين تمخض اجتماعٌ عُقد في بيروت لأحزاب وتنظيمات سياسية عربية، لا أعرف إن كان من الصواب وصفها بتنظيمات “يسارية”؛ عن تأسيس هذه الجبهة العتيدة والتي ضمت في عضويتها حركة الشعب من لبنان و الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و التيار الشعبي من تونس و حزب الكرامة من مصر و حزب الرفاه من موريتانيا و هيئة العمل الوطني الديمقراطي من سوريا وحزب الوحدة الشعبية من الأردن واتحاد الشيوعيين من الأردن وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي من المغرب والحزب الاشتراكي المصري وحملة مقاطعة داعمي إسرائيل من لبنان. وانتخب المجتمعون النائب اللبناني الأسبق نجاح واكيم ناطقاً رسمياً لها.

ونشر موقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بالإضافة الى مواقع الأحزاب المذكورة، وصحيفة تشرين الرسمية في دمشق، وقناة المنار التابعة لحزب الله، وقناة الميادين، وغيرهم من المواقع، بيان تأسيس الجبهة.

والتعليق على تأسيس الجبهة، له ضرورةٌ، مع أن أهمية الموضوع برمته موضع شك. والضرورة هنا تكمن في استكشاف كيف يستثمر الضالعون في العمل السياسي المساحة العامة، من دون الاضطرار الى الاستطراد في التحليل بناء على مشهد الاصطفاف الراهن في المنطقة العربية. أو على الأقل، فلنتجاهل عامل الاصطفاف لغايات هذا المقال والمقام.

فيقول بيان التأسيس في التوطأة لمباديء وأهداف الجبهة أن “الهجمة الإمبريالية الرجعية الشرسة التي شنت على الأمة العربية، وسوريا بشكل خاص، منذ اندلاع الحركات الشعبية الاحتجاجية خلال العام 2011، تهدف إلى إجهاض المسارات الثورية التي اندلعت شرارتها في العام نفسه..”. وهذا غريبٌ الى درجة الفجاعة، ففيه من الدلالة ما يحمل على التأكيد على أن أهل البيان يضعون الانتفاضة الشعبية في سوريا والتي تنتمي لذات الحقبة الزمنية، مثلاً، في خانة “الهجمة الامبريالية” أو على الأقل أنهم لا يرون لها مكاناً في الحركات الشعبية الاحتجاجية.

ويمضي البيان في تعداد الغايات التي قامت من أجلها الجبهة ويذكر التحرر الوطني والقومي ودعم المقاومة ضد إسرائيل و”اعتبار المشاريع التكفيرية والمذهبية والطائفية، بأشكالها المختلفة، الوجه الآخر للاستعمار والصهيونية..”. إلا أن ليس من الواضح أبداً إن كان أهل البيان يستخدمون مسطرة قياس واحدة للحديث عن هذه المشاريع، وهم غالباً، وبالاستناد الى المعروف عن هذه التنظيمات من مواقف مُعلنة، يشيرون إلى الجماعات المسلحة مثل داعش وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات ذات المذهب السُني، وتقصر مواقف هذا التنظيمات عن تناول الجماعات المسلحة ذات المذهب الشيعي ومشاريعها. والواقع أن الجماعات السنية دأبت على تكفير الطوائف الأخرى لتحليل استهداف أفرادها، إلا أن الجماعات الأخرى، الشيعية مثلاً، باتت تستخدم مصطلح “التكفيريين” لوصم كل من يعارضها ويختلف معها في الموقف أو السياسة، وبالتالي، تحليل استهدافهم.

وتريد الجبهة كذلك “التصدي للارهاب والفكر الظلامي التكفيري” و”النظر إلى الحرية والديمقراطية بوصفهما صمام أمان لبلوغ الأوطان غاياتها في التقدم والنهوض وتحقيق المساواة” و”تعميم الأفكار التقدمية وقيمها، وذلك لمنع القوى الصهيو – أميركية وأتباعها وأدواتها من استغلال الدين لتحقيق أهدافها المشبوهة ومصالحها الجشعة على حساب أمتنا وشعوبنا وأوطاننا” و”العمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بأفق اشتراكي، لضمان سيادة الشعب العربي على ثرواته”.

وأقل ما يُقال عن ما ورد في الفقرة السابقة، هو أنه خليطُ “سمك-لبن-تمر هندي”. لا تفسير به لشيء، ولا يُكملُ بعضه البعض، ولا يخدم بعضه البعض أبداً. ولننظر مثلاً الى استغلال الدين كما يرى البيان؛ فمُستغلو الدين ليسوا فقط من أتباع القوى الصهيو-أميريكية بل نصفهم كذلك من أتباع القوى المليشيو-الطهرانية، وهو ما لا تجودُ به قلة فصاحة هذا البيان.

يغيبُ عن هذا البيان وهذا التأسيس وهذه الجبهة: الإنسان. لا يعترف هذا البيان ولو في جملة واحدة أو كلمة واحدة أو إشارة واحدة الى مصالح الانسان. وان كان واضعو البيان والجبهة يشمئزون من “حقوق الانسان” فليكملوا شرابهم اليومي. إلا أن مشروعاً سياسياً لا يقوم على العمل على تحقيق العدالة (والعدل) لضحايا مسيرة خمس سنوات من الحراك الشعبي العربي (في كل مكان)، ولا يطلب المحاسبة، والإنصاف، وجبر الضرر، ولا يرى المستقبل بعيون إحقاق الكرامة الإنسانية المتأصلة للكائن البشري؛ ليس بالضبط مشروعاً “تقدمياً”.

ولعل في أي حجة يقدمها خصوم هذا البيان والجبهة والتنظيمات المتبنية له، بأنه تأسيسٌ لرؤية “فاشية” للحراك السياسي العربي، بعض الوجاهة. لا يعترف البيان ولا يُقرُ بتنامي وصعود الديكتاتوريات في المنطقة العربية، ولا يرى أن بعضها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية بحق شعوبها. ولعل خاتمة البيان بتأكيده على “أهمية الحل السوري – السوري خارج التدخلات” نهاية المشروع التقدمي. لو أن نهج البيان كان حقاً تقدمياً، لأكد على أهمية الحل الذي يكفل حقوق السوريين وكرامتهم ويضمن لهم السلامة والأمان ويضع المتسببين بالمأساة التي حلت بهم في مزبلة التاريخ (على المدى الطويل) وأمام المحاكمة والسجن (على المدى المنظور).