Arabic أزمات راهنة

الحقوق الاقتصادية والتغيير في مصر: الحريات وقوداً لقطار التنمية

عمرو خيري

تنويه: حقوق الملكية الفكرية للصورة المُرافقة لهذا المقال تعود لـ علاء القمحاوي، الذي سمح باستخدامها هنا

التنمية والحريات جدلية مهمة تقع في القلب من حركة المجتمعات، وقد كان للسنوات الست الأخيرة في مصر قول فيها. تفرّق أدبيات دراسات التنمية، كفرع من فروع العلوم الاجتماعية، بين فئتين من التنمية: التنمية كفعل قصدي تلجأ إليه الدول في صورة خطط واستراتيجيات جزئية، والتنمية بالمعنى الأشمل والأكثر جوهرية، وهي التغيير الاجتماعي والسياسي الذي تمرّ به المجتمعات بشكل عضوي، مثل لحظة الثورات العربية الأخيرة، طموحاً إلى “عالم أفضل”.[1] على أن التجربة أثبتت شبه استحالة التوفيق بين الفعلين في آن. في الحالة المصرية مثلاً استمرت حكومة مبارك نحو 30 عاماً تروّج للرئيس بصفته بطل الحرب والسلام ورائد مشروع التنمية بصورته الشهيرة وسط حقول القمح الأصفر ونظارته الشمسية الشاخصة للمستقبل. ثم جاءت الثورة لتكشف زيف المشروع وتهافته إيذاناً ببدء لحظة التنمية الجذرية: الثورة للتغيير نحو سياق يحفظ الحريات ويكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ثم عادت الدولة في أواخر عام 2013 معلنة اختتام فعاليات الثورة بلا معاودة، ومعها خطاب “الاستقرار لأجل التنمية” محمولاً على كتفي المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ وإطار قانوني تضييقي خانق لحرية التنظيم والتجمع والتعبير، وكأن قطار التنمية وقوده الحريات. ولعل كفاح الثورة منذ انطلاقها في مصر كان يدور حول هذا المجاز، وليس منذ 2013 فقط. هو إذن إما تغيير جذري يهيئ الساحة لتنمية حقيقية تحفظ الحقوق والكرامة، أو تنمية “الاستقرار” بمعنى “محلك سر”. فيما يلي أعدد أمثلة قليلة، لكن قبلها يصح استعراض التنمية من منظور حقوق الإنسان.

لا يكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية – الوثيقة الدولية المُلزمة للدول – الحق في التنمية في حد ذاته، إنما يطالب الحكومات في المادة 6.2 “بسياسات وتقنيات من شأنها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية مطردة” في سياق ذكر العهد للحق في العمل. لكن يذهب نص الفقرة أيضاً إلى ضرورة تحقيق هذه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية “في ظل شروط تضمن للفرد الحريات السياسية والاقتصادية الأساسية”. يبدو هذا النص متسقاً مع تقدير المنظومة الدولية للتنمية، الذي خرج من أفكار المُنظّر الاقتصادي أمارتيا سين في كتابه “التنمية حرية“، وفيه استعرض التنمية بصفتها التمكين من تهيئة “القدرة” لدى الفرد على كسب الرزق وعلى “السعادة” من منطلق ليبرالي بحت يرجع لأفكار “آدم سميث” نفسه. هذا أيضاً هو سياق الهيئات التنموية في الأمم المتحدة والخط الأعرض والأعمق وراء استراتيجيات أغلب المنظمات التنموية الدولية والمحلية، حكومية وغير حكومية، ومؤداه أنشطة تحت عنوان “التنمية” من قبيل “بناء القدرات” و”التمكين” للأفراد و”المجتمعات المحلية”. على الرغم من صمت العهد الدولي إذن عن التنمية كحق؛ فهو يؤكد على ضرورة عدم إخلال الدول – أثناء سعيها للتنمية – بشروط الحريات السياسية والاقتصادية الأساسية. النص المعياري إذن يطالب باقتران التنمية بالحقوق كافة، لكن الواقع على الأرض اختلف.

بدءاً من لحظة فوران الثورة، ليس أدلّ على إصرار الدولة على تغذية قطار التنمية بوقود الحريات أثناء المرحلة الانتقالية (2011 – 2012) من أغنية للمطرب محمد ثروت أنتجتها الدولة إبان انتفاضة محمد محمود (خريف 2011) لحث المواطنين على الالتفات إلى “عجلة العمل”. الأغنية بعنوان “طول ما الزمن ماشي قطر العمل ماشي” ظهرت في لحظة خلاف عميق بين المطالبين بالتغيير والدفع بأهداف الثورة على جانب، والسلطات الانتقالية ومن انحاز إليها من القوى السياسية في تلك اللحظة على الجانب الآخر. كان من السهل أن يمر المواطن بسيارته فوق كوبري أكتوبر والأغنية يبثها راديو السيارة، ليرى الاعتصامات إلى يمينه في ميدان التحرير، ومعها العنف والانتهاكات المتكررة.

ثم جاءت لحظة المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ عام 2015 وقد مهّدت لها الحكومة بقوانين جديدة تضيق بشكل غير مسبوق على حرية التجمع بدعوى حفظ الاستقرار، في إقرار صريح باستراتيجية تنموية مفادها أن لا تنمية دون استقرار، ولا استقرار دون صمت تام وموت للسياسة. وقتها وتحضيراً للمؤتمر أصدرت الجهة المنظمة فيديو دعائي للمستثمرين ورد فيه أن “مصر استقرت وأصبحت مستعدة لاستقبال الاستثمارات” فتعالوا.

ثم وفي مثال أخير، حاولت الحكومة تبرير نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية بحديثها عن تشييد جسر يربط بين الدولتين من أجل المزيد من التنمية. المُلفت أن من تصدوا بالتقاضي – بنجاح – لهذه المحاولة هم بعض المدافعين عن الحقوق في مصر، وبينهم خالد علي، من المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومالك عدلي المحامي الحقوقي الذي دفع ثمن مشاركته في القضية ثلاثة أشهر من الحبس الانفرادي في ظروف بالغة القسوة.

هي صورة شديدة التوتر إذن: دعاوى منحازة للدولة، عن وصفة “التنمية بالاستقرار على حساب الحقوق وحياة سياسية حقيقية” أو تغيير جذري يهيئ ظروفاً أفضل للتنمية سبق أن رفضه جميع الفاعلين الأساسيين على الساحة المصرية قبل 2013. وفي تفصيلة سريالية عجيبة، مدافعون عن حقوق الإنسان يدافعون عن سيادة الأرض، وهي من المهام الجوهرية للدولة. لكن الأخيرة وقفت في المحكمة تعدد حيثيات تبعية الجزيرتين لدولة أخرى، من أجل التنمية والاستقرار. هؤلاء هم نفس النشطاء الذين دأب الإعلام المنحاز للحكومات المتعاقبة (حكومة مبارك، الحكومة الانتقالية، الإخوان المسلمين، حكومة السيسي) على اتهامهم بالعمالة وتنفيذ أجندات أجنبية ضد “الدولة المصرية” وضد “الاستقرار”.

أترك تقدير مآلات هذه الخيوط للقارئ بعد أن اكتفيت باستعراض موجز للصورة كما تكشّفت، لكن أود الختام بالتشديد على أمرين: أولاً، أهمية تدبّر صناع القرار الحاليين والمقبلين في مصر لسؤال: كيف تتحقق التنمية في سياق من الحقوق السياسية والاقتصادية المكفولة للجميع، أو التوفيق بين التغيير والتنمية، إن صحّت العبارة. ليس بالسؤال السهل، وربما ليست له إجابة، لكن طرحه واجب. ثانياً، النجاح القانوني والشعبي لتدخل المدافعين عن حقوق الإنسان في مسألة الجزيرتين يدفع باتجاه التفكير في أدوار تتماس مع مختلف الحقوق – وبينها الحقوق الاقتصادية – دون التركيز حصراً على الرؤية الأضيق لأنشطة التنمية كخدمة مقدمة للأفراد من أجل “بناء القدرات”، وفي نموذج الحقوقيين المدافعين عن “السيادة” الكثير من الدروس.

[1]  انظر:

Cowen, P. & Shenton, W., 1996, Doctrines of Development, London: Routledge, p. 111; Rist, G., 2008. The History of Development: from Western Origins to Global Faith, 3rd ed, London: Zed Books, pp. 12-13.