Arabic الفريق الوطني لحقوق الانسان الأردن

مساحةُ العمل المدني المستقل في الأردن تتلاشى على إيقاع سياسات الحكومات المتعاقبة

لا يبدو أن الأردن ماضٍ باتجاه توسيع مساحة العمل المدني المستقل، وتدعيم ركائزه الثلاث المُتمثلة في كفالة حرية التعبير، والتمكين من التجمع السلمي، وإتاحة حرية التنظيم على نحو يتسق مع القواعد والمعايير القانونية الدولية التي دأب الأردن على الإقرار بأنه جزءٌ لا يتجزأُ منها. وعلى العكس من ذلك، تبدو المساحة الراهنة في أضيق حدود لها منذ السنوات الأولى التي أعقبت إنهاء العمل بالأحكام العُرفية في عام 1989، بل ومن المُرجح أن تشهد الأعوام القليلة القادمة تلاشياً لهذه المساحة، بما من شأنه أن يُنتج حالةً مستقرةً من الجمود السياسي والاجتماعي، مشوبةً باحتمالات غير محدودة للنكوص عن احترام أبسط الحقوق الإنسانية، وعلى رأسها الحقوق الاقتصادية لشرائح مجتمعية واسعة.

الفريق المستقل لحقوق الإنسان

مايو/ أيار 2017

عمان ـ الأردن

ورقة تحليلية

*تتوفر نسخة من هذه الورقة بنسق  بي دي اف هنا للتحميل

   1. مدخل                

1.1. يُشار في أغلب الأحيان إلى العمل المدني المستقل باعتباره النشاط غير الخاضع لسلطة الحكومة (الدولة) وإشرافها المباشر، ولا يتم عبر أجهزة الدولة ومؤسساتها، أو عبر موظفيها بصفتهم الوظيفية؛ والذي يهدفُ إلى إثراء الإسهامات الثقافية والفكرية والاجتماعية في مجرى الحياة العامة، والذي قد يشمل الرقابة على أداء أجهزة الدولة، وإبداء الرأي في القضايا العامة، واتخاذ مبادرات ذات طابع سلمي بهدف التعبير عن رأي الناس، أو مجموعة منهم، فيما يتعلق بأي من المواضيع وأي من القضايا.

1.2. ويتميز العمل المدني المستقل بشكل أساسي، في كون مضمونه هادفاً إلى تقوية ركائز مجتمع يقوم على أساس الحكم المدني. ولا يعني الحكم المدني بالضرورة نمط الحكم السياسي وشكل تداول السلطة (إن وُجد ذلك)؛ إنما يُشيرُ إلى ويُدلل على أنماط من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يربط فيما بينها أدوات مدنية الطابع (الدستور والقانون والأحكام المُدونة والضمانات التي يوفره القضاء المستقل وتعدد الأحزاب السياسية والصحافة الحُرة وأُطر نقابية لا تسيطر عليها الحكومة ومنظمات غير حكومية، من ضمن أشياء أخرى).

1.3. ومن الأمثلة على أشكال العمل المدني المستقل الذي لا تشرف عليه الحكومة أو تتحكم به؛ المبادرات التطوعية الهادفة إلى إنقاذ البيئة الحُرجية في الأردن والحفاظ على الأشجار؛ أو قيام المجموعات الشبابية بشكل طوعي بالتنسيق فيما بينها للتحرك من أجل تعديل قانوني لتخفيض سن الحد الأدنى للمشاركة في الترشح في الانتخابات النيابية؛ أو تشكيل روابط مستقلة للفنانين تُعنى بإيجاد مساحات حرة للتفكير الإبداعي؛ أو تأسيس منظمات غير حكومية للعمل على قضايا التنمية؛ أو اتخاذ مبادرة من قبل أي مجموعة من الناس لمخاطبة أجهزة الدولة والضغط عليها من خلال الاعتصامات وغيرها من الطرق السلمية؛ أو تأسيس مراصد وجهود بحثية لمتابعة تنفيذ الحكومات لالتزاماتها فيما يتعلق بالحد من البطالة؛ أو تأسيس الملتقيات التي تسعى الى تشجيع وتنشيط الحوار حول قضايا محددة ومعينة؛ وغيرها.

1.4. ويرتبط العمل المدني المستقل بثلاث ضمانات أساسية هي حرية التعبير وحرية التجمع وحرية تأسيس الجمعيات والروابط وما شابه ذلك.

1.5. ويُشار إلى مصطلح مساحة العمل المدني، باعتباره الإطار الفعلي الذي يتم من خلاله قياس حجم وفاعلية وإمكانية تنفيذ أنشطة في سياق العمل المدني المستقل (حسب ما تمت الإشارة اليه أعلاه). ولا يرتبط مفهوم المساحة في هذا المجال بفرضيات ذات طابع رياضي أو حسابي، ولا توجد محددات على الاتجاهات التي تتخذها المساحة المفترضة (أفقياً أم عامودياً)

1.6. وبناءً على الفقرة السابقة، فإن للمساحة وحجمها وحدودها، تأثيرٌ بالغٌ على طبيعة ونوع وحجم العمل المدني المستقل وأنشطته.

1.7. ولا يبدو أن الأردن ماضٍ باتجاه توسيع مساحة العمل المدني المستقل، وتدعيم ركائزه الثلاث المُتمثلة في كفالة حرية التعبير، والتمكين من التجمع السلمي، وإتاحة حرية التنظيم على نحو يتسق مع القواعد والمعايير القانونية الدولية التي دأب الأردن على الإقرار بأنه جزءٌ لا يتجزأُ منها. وعلى العكس من ذلك، تبدو المساحة الراهنة في أضيق حدود لها منذ السنوات الأولى التي أعقبت إنهاء العمل بالأحكام العُرفية في عام 1989، بل ومن المُرجح أن تشهد الأعوام القليلة القادمة تلاشياً لهذه المساحة، بما من شأنه أن يُنتج حالةً مستقرةً من الجمود السياسي والاجتماعي، مشوبةً باحتمالات غير محدودة للنكوص عن احترام أبسط الحقوق الإنسانية، وعلى رأسها الحقوق الاقتصادية لشرائح مجتمعية واسعة.

  2. الإشكاليات القائمة   

2.1. قيود تشريعية وعملية تُقلص مساحة العمل المدني المستقل 

2.1.1. فيما يتعلق بحرية التجمع السلمي 

2.1.1.1. بالرغم من كفالة الدستور الأردني، والقانون المعروف باسم قانون الاجتماعات العامة لـ 2004 (والمُعدل في عام 2011) لحق الأردنيين في عقد اجتماعات عامة (عرّفها ذات القانون باعتبارها تلك التي تُعقد لبحث أمر ذي علاقة بالسياسة العامة للدولة) إلا أن العُرف الذي سارت الأمور بموجبه في السنوات القليلة الماضية ذهب باتجاه إعطاء صلاحيات تقديرية للحاكم الإداري في منع عقد الاجتماعات العامة ورفض ترخيص المسيرات، من دون مُوجب أو مُبرر، ومن دون تسبيب، ومن دون وجود آلية (قضائية مثلاً) تسمح بالتظلم على قرار الحاكم الإداري غير المكتوب أصلاً. وتذهب الممارسات الراهنة إلى الاعتداد بأن لا وجود أصلاً لقرارات منع من قبل الحاكم الإداري (كونها تُخالف القانون)، إلا أن النتيجة هي ذاتها: يتطلب عقد الاجتماعات العامة نوعاً من الموافقة (الفعلية) وليس الضمنية للحاكم الإداري على عقدها (مثلاً إشعار الفندق الذي يستضيف الاجتماع المعني بعدم جواز عقد الاجتماع، وتحذيره بالملاحقة القضائية، بشكل غير مُوثق، أي بدون بلاغ مكتوب ومُرسل حسب الأصول المعمول بها).

2.1.1.2. ولا يكفي التفسير القائل باتساع دائرة الصلاحيات أو السلطات التقديرية الممنوحة للحاكم الإداري (مثلاً) لدحض المسؤولية عن كاهل الدولة ومن يقوم مقامها في السلطات التنفيذية عن تقييد حرية التجمع على نحو يجعل من اللقاءات العامة والمسيرات “استثناءً” وليس الأصل، وبما يطمس على نحو، يبدو منهجياً، معالم المشاركة والحرية عن خارطة الحياة السياسية والاجتماعية، ويُفقرُها بالتالي لجوهرها القائم على التداول الحر والفعال حول الشأن العام.

2.1.1.3. وبموجب مبدأ المسؤولية القيادية، فإن سلوك الحكام الإداريين وتكراره على نحو دائم ومُستمر، لا يترك مجالاً للشك بأن السلطات التنفيذية على علم بهذه الإجراءات، ولم تتخذ ما من شأنه وقف الممارسات التي تخالف القانون نصاً وروحاً، كما أنها لم تتخذ أي إجراء عقابي بشأن أي منها، بل استمرت في السماح للحكام الإداريين باستخدام صلاحياتهم لعرقلة عقد الاجتماعات العامة والمسيرات السلمية.

2.1.2. فيما يتعلق بحرية التنظيم (تكوين الجمعيات)

2.1.2.1. حرية التنظيم لا تقتصر فقط على تسجيل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي قد تتلقى أو لا تتلقى تمويلاً محلياً أم أجنبياً لتمكينها من تنفيذ أنشطتها وتحقيق أهدافها. وتتسع دائرة الحق في التنظيم لتشمل تمكين الأفراد القاطنين في المجتمع من تأسيس أي شكل من الروابط والأندية والاتحادات والتجمعات، المُسجلة أم غير المُسجلة، وحتى النقابات والمنظمات التي تمثل مصالح فئات معينة وتعبر عنها.

2.1.2.2. ويسمح الإطار التنظيمي والتشريعي المعمول به بالهيمنة من قبل السلطة التنفيذية على إنشاء النقابات وتأسيسها، وبموجب قانون العمل (مثلاً) تخضع النقابات للترخيص المسبق من خلال إجبارها على تقديم طلب تسجيل لدى مُسجل النقابات ونقابات أصحاب العمل بوزارة العمل والذي يلزمه القانون بأن يصدر قراره بشأن طلب التسجيل خلال مدة لا تتجاوز 30 يوماً، وإذا قام بالرفض دون بيان الأسباب فيعتبر قراره صحيحا وفقاً لما استقر عليه القضاء الأردني الذي اعتبر كل قرار إداري مصحوباً بقرينة البراءة من العيوب، ومتفقاً مع مبدأ المشروعية، ويتوجب على من يدعي غير ذلك “إقامة الدليل”. ولا يسمح القانون بـ”تعددية النقابات”، أي أنه لا يُجيز ترخيص نقابتين أو أكثر لعاملين في ذات القطاع أو المهنة، كما تُعدُ التجمعات النقابية الطوعية غير المُسجلة عملاً يُخالف القانون.

2.1.2.3. أما المنظمات غير الحكومية والجمعيات غير الربحية التي تنشط في مجالات متعددة ليس أولها الحريات السياسية وليس آخرها تشجيع التضامن الاجتماعي والخيري، فهي بدورها باتت خاضعةً أكثر من أي وقت مضى لسيطرة السلطات التنفيذية، وتُعدُ الأداة التشريعية ذات الصلة قانون الجمعيات (يسري حالياً قانون الجمعيات رقم 22 لسنة 2009). ويشتكي معظم العاملون في هذه المنظمات من قيود لا مبرر لها يتضمنها القانون المعمول به، سواءً في شروط التسجيل، والاختصاص، أو في الحصول على التمويل لدعم أنشطتها في ظل اشتراط الموافقة الحكومية على هذا التمويل. وشكت العديد من المنظمات من رفض طلبات التمويل التي تقدمت بها دون أن تبدي الحكومة أي مبررات.

2.1.2.4. ولا يُعطي القانون أي صفة ولا يعترف بالمجموعات غير المُسجلة، والمقصود بها التجمعات الطوعية المكونة من ناشطين ومهتمين بقضية محددة أو موضوع ما محدد، أو تلك التي تقوم على أساس توفير مساحة للنقاش والتفكير المشترك لأفراد يتشاركون في الفكر ووجهات النظر. كما من شأن ممارسة أي نشاط في إطار هذه المجموعات أن يكون عُرضةً للملاحقة.

2.1.3. فيما يتعلق بحرية التعبير

2.1.3.1. في واقع الأمر؛ لا تكفل الدولة الأردنية حرية التعبير، وتتخذ في بعض الأحيان من الإجراءات ما يجعلها ـ أي الدولة ـ تُهدر هذا الحق وتنتهكه. ويُشيرُ واقع الأمر، كذلك، على أن الاستثناءات التي يخضع لها الحق في حرية التعبير يجعل من هذا الحق صورياً لا قيمة له، في حين أضحى الاستثناء قاعدة راسخة في النهج التشريعي وممارسات السلطات التنفيذية.

2.1.3.2. تتسع مظلة التشريعات التي تضع قيوداً (استثناءات) على حرية التعبير، وتشمل عدداً من القوانين مثل قانون المطبوعات والنشر، قانون الجرائم الإلكترونية، قانون جرائم أنظمة المعلومات وقانون العقوبات، بالإضافة إلى عدد آخر من القوانين.

2.1.3.3. ولجأت السلطات التنفيذية في السنوات الأخيرة لاستخدام العديد من الأدوات القانونية والتشريعية لملاحقة أفراد بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم، وبالأخص على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لاحقت صحافيين بسبب ما نشروه سواء في وسائل الإعلام التي يعملون بها، أو على وسائل التواصل الاجتماعي، كما لاحقت ناشطين ومُدونين على ذات وسائل التواصل بسبب محتوى ما نشروه.

2.1.3.4. وتكرر لجوء السلطات التنفيذية إلى توجيه اتهامات لمن لوحقوا بسبب ما نشروه وكتبوه، في إطار يحمل الطابع الجنائي. ومن أبرز هذه الاتهامات “تقويض نظام الحكم”، “النيل من هيبة الدولة”، “تعكير صفو العلاقات ]مع دول شقيقة أو صديقة[، “الإساءة للدين” و”المساس بمقامات عُليا”.

2.1.3.5. سعت السلطات التنفيذية إلى محاولة استغلال الظرف السياسي والأمني المضطرب في المنطقة والذي طال الأردن نصيب منه من خلال ما تعرض له من هجمات إرهابية، هذا فضلاً عن ردة فعل بعض المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي على أحداث بعينها مثل اغتيال الكاتب ناهض حتر في شهر أيلول/سبتمبر 2016، وذلك لفرض المزيد من القيود على الحق في التعبير بحجة محاربة خطاب الكراهية. وحذر الفريق المستقل لحقوق الإنسان في ذلك الوقت من وجود تخمة تشريعية مُقيّدة لحرية الرأي والحق في التعبير، لا يبدو معها مفهوماً حاجة الحكومة لتشريع خاص لمكافحة خطاب الكراهية.

2.1.3.6. وشكلت حادثة اغتيال الكاتب الراحل ناهض حتر في سبتمبر/أيلول 2016 مثالاً واضحاً على خطورة استخدام الأدوات التشريعية المُقيّدة لحرية التعبير على نحو مُتعسف، حيث أنّ من بادر باعتقال الكاتب الراحل وإثارة الرأي العام ضده هو السلطة التنفيذية استناداً إلى قانون منع الجرائم، وأحالته إلى مدعي عام محكمة أمن الدولة بناءً على نصوص قانون العقوبات الخاصة بـ “إثارة النعرات”، في حين كانت العدالة الجنائية تقتضي أن يتم حماية الكاتب الراحل مما وُصف بـ”خطاب الكراهية والتحريض” بسبب قيامه بالتعبير عن رأيه.

2.1.3.7. ويتسق مع القيود المفروضة على حرية التعبير قيوداً أخرى مشابهة تُفرضُ على حماية حق الوصول للمعلومات. ويتخذ المنهج السائد في أعراف السلطات التنفيذية المتعاقبة طابع “المنع” و”الحجب” وعدم إتاحة المعلومات كنتيجة طبيعية وتلقائية لعلاقة السلطات مع الجمهور كمُتلقِ أساسي للخدمات (المعلومات) التي يوفرها الجهاز العام عن طرائق عمله وخدماته وما يتسبب به، سلباً أم إيجاباً، ومن شأنه أن يعود بالفائدة أو الضرر على الأفراد القاطنين في المجتمع، وكما ينسجم مع المفهوم الذي دشنته الأمم المتحدة من أن الحق في المعلومات هو: “حق الإنسان في الوصول الآمن إلى المعلومات التي تحتفظ بها الجهة العامة وواجب هذه الجهة في توفير هذه المعلومات له”.

2.1.3.8. وبالرغم من أن الأداة التشريعية المناط بها حماية الحق في الوصول للمعلومات (قانون ضمان الحق في الوصول للمعلومات لعام 2007) يشتمل على قواعد تنظم حصول الجمهور على المعلومات، إلا أن طابع هذه القواعد يتسم أساساً بكونه يضع العبء على الأفراد في طلب المعلومات، وليس تقديمها طوعاً وعلانيةً وبشكل يمكن التماسه بسهولة ويُسر من قبل جموع المواطنين. كما تتسع المظلة التشريعية التي تضع ضوابطاً (قيوداً) على الوصول للمعلومات لتشمل قوانين أخرى، مثل قانون حماية وثائق وأسرار الدولة على سبيل المثال.

2.1.3.9. يُشكلُ اللجوء إلى استخدام “حظر النشر” إهداراً لحق الجمهور في المعرفة والنقاش وخاصة فيما يتعلق بالعديد من القضايا التي تهم الرأي العام، والتي يجب أن يُتاح لهُ نقاشها والتداول بها، في مسائل لا تتعلق بمجريات التحقيقات الأمنية والشرطية ذات الطابع الخصوصي والسري.

2.2. سيادة القانون والمُساءلة

2.2.1. يُعدُ التعسف في استخدام الصلاحيات التقديرية أحد أبرز الإشكاليات العملية التي تعترض العمل المدني المستقل. ومن شأن غياب الأحكام المكتوبة والمدونة، بالإضافة إلى عدم الإفصاح عن المُسببات القانونية التي بُني عليها إطار اتخاذ الإجراءات المتخذة في مسائل تتعلق بإنفاذ القانون؛ أن يُرجح كفة السلطات التنفيذية في كافة المسائل والإجراءات الماسة بركائز مساحة العمل المدني (التجمع والتعبير والتنظيم).

2.2.2. وبشكل خاص، فإن استخدام الصلاحيات الإدارية على نحو يُخالف القانون من دون مُساءلة في تكرار منع الاجتماعات العامة وبما لا يُجيزه القانون، من شأنه أن يُحبط النمو الطبيعي الحر لمساحة العمل المدني.

2.2.3. ومن شأن الإخلال بأسس المحاكمات العادلة، وكفالة أن يمثل المتهمون أمام قاضيهم الطبيعي، تقويض مبادئ سيادة القانون من خلال محاكمة المدنيين أمام محاكم ذات طابع عسكري استثنائي. وتم بالفعل في السنوات الماضية إحالة متهمين بقضايا اتُهموا فيها بسبب آرائهم إلى النصوص الخاصة بـ”منع الإرهاب” سواء في قانون العقوبات أو في قانون منع الإرهاب؛ ومنها ما يُحيل الاختصاص في العديد من الأفعال إلى محكمة أمن الدولة.

2.2.4. تسود في البيئة الراهنة في الأردن بيئةٌ من انعدام المحاسبة، وسواء كان ذلك ثمرةً لغياب الآليات المؤسسية، أو نتيجةً حتمية لاستقرار الإرادة السياسية لدى صانعي القرار بالتغاضي المستمر عن المخالفات أكان في إطار القانون أو في إطار الممارساتـ،، وقد أسس ذلك كله لمناخ عام من الحصانة الضمنية والواقعية لمُرتكبي المخالفات والانتهاكات، مُعزَزاً بـ ، ومُستنِداً إلى؛ تسامح رسمي (ضمني) مع مبدأ الانتهاك.

2.2.5. وتشير الخطة الوطنية الشاملة لحقوق الانسان التي أعدها وأطلقها المنسق الحكومي لحقوق الانسان في 2016، مثلاً، الى تعدد الآليات التي يُفترض بها استقبال ومتابعة شكاوى المواطنين الخاصة بالانتهاكات، بما يتسبب به ذلك من إشكاليات في جدية المتابعة وتفعيل خيارات المُساءلة. وواقع الأمر، أن أياً من الآليات المفترض وجودها حالياً، تفتقر الى اسناد جدي من التعليمات واللوائح التي يجعل من قدرتها على المُساءلة الجدية والفعلية أمراً ممكناً.

  3. قياس مساحة العمل المدني المستقل بالنظر للعوامل والمعطيات السابقة  

3.1.1. ركائز حماية مساحة العمل المدني المستقل الثلاث، التجمع والتعبير والتنظيم، متداخلةٌ فيما بينها إلى درجة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض.

3.1.2. فمثلاً؛ من شأن انخفاض منسوب حرية التعبير، بسبب القيود والاستثناءات الوارد ذكرها، أن يجعل من فكرة الاجتماع العام بحد ذاته مسألةً “حساسة” أو ضيق الإطار أو من غير جدوى، لأن الاجتماع العام من المفترض أن يقوم على نقاش مسائل تتصل بالسياسات العامة للدولة، ومنها غالباً نقد الأداء الحكومي والتفكير بسبل لتقويمه من خلال وسائل الضغط الشعبي السلمية المتاحة. وفي حال تعددت وزادت الممنوعات المتعلقة بحرية التعبير، قلت فرص تنظيم لقاءات وتجمعات عامة، تتناول تلك الممنوعات بالنقد.

3.1.3. ومن زاوية أخرى؛ فمن شأن زيادة القيود على الحق في التنظيم وتأسيس الجمعيات والروابط والتجمعات، أن يعود بنتيجة سلبية على كل من الحق في حرية التعبير والحق في التجمع. يمنحُ تجمع الأفراد في إطار “مُنظم” إمكانية التخطيط والتنسيق بفاعلية، والاستفادة من الموارد والمصادر المتاحة إلى أقصى درجة ممكنة، كما أنه يمكنهم من الاستفادة من القدرات والمهارات الفردية المتوفرة وصهرها في بوتقة من الفعل الجمعي. ومع تضاؤل إمكانيات التنظيم الحر والمستقل، تقل فاعلية الأثر المتحقق من أي فعل ونشاط يهدف الى رفع القيود عن حرية التعبير، ومواجهة السلطات التنفيذية بشكل سلمي، من خلال وسائل شعبية، لدفعها الى الإقرار بالمطالب الهادفة الى حماية حرية التعبير.

3.1.4. ومن زاوية ثالثة؛ فإن تقلص مساحة ممارسة الركائز الثلاث، يجعلُ من الدفاع عن وحماية مجمل الحقوق الأخرى، مسألةً صعبة وشاقة، ومستحيلة في بعض الأحيان. وواقع الأمر أن الحقوق الاقتصادية هي المتضرر الأول والأكبر من تضاؤل أو انكماش المساحات المذكورة، ولا قيمة تذكر لها، بل من السُخرية أن يُنظر إلى هذه الركائز الثلاث باعتبارها فقط تمس “الحقوق السياسية” لمجموع الأفراد في المجتمع، كون كل من الحقوق السياسية والاقتصادية لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض بأي حال من الأحوال.

3.1.5. ومن شأن تقليص مساحة العمل المدني، وبالأخص الدور المستقل الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني، أن يُقلص بشكل كبير دور هذه المؤسسات، وأن يجعلها في حالة من الاعتماد على الحكومة لتحديد دورها ومُساهمتها في فضاء العمل العام. ومن شأن القيود التي فرضتها الحكومات المتعاقبة على عمل هذه المؤسسات أن تُعيق قدرتها على الرقابة على تنفيذ المشاريع وتطبيق القوانين على سبيل المثال، وبما يضرُ بمصلحة الحكومة في التعرف على الأثر المترتب على تنفيذها لمشاريعها وخططها؛ وبما يُعرقلُ ويُحبطُ استدامة هذه المؤسسات، وعملها.

  4. النتائج المترتبة على تقلص أو انكماش أو انغلاق أو ضيق مساحة العمل المدني المستقل  

4.1. تفرد حكومي في اتخاذ القرارات التي تمس مصير مجموع الأفراد في المجتمع

4.1.1. بسبب ضخامة الأعمال التي يقوم بها الجهاز العام في الدولة، فمن الطبيعي أن تٌتخذ عشرات أو مئات القرارات بشكل يومي، وبما يمس شؤون الأفراد في المجتمع على نحو مباشر. ويُشجع غياب النقاش العام، وسبل اتخاذ الإجراءات لتحدي القرارات الحكومية، ومعارضتها أو نقدها على نحو “فاعل”، المزيد من جنوح السلطات العامة إلى اتخاذ القرارات من دون مراعاة، أو الأخذ بعين الاعتبار، أو بالحسبان، آراء أفراد المجتمع ومصالحهم، وفي أحسن الأحوال، حتى مع افتراض النوايا الحسنة للسلطات التنفيذية ومن يقوم مقامها، فإن هذه القرارات تُتخذ وفق نهج بيروقراطي يسودهُ الطابع الفني والذي لا يُغلبُ بالضرورة مصالح أفراد الجمهور أو يجعلها في المقام الأول.

4.2. غياب للشفافية والمُساءلة

4.2.1. وبطبيعة الحال؛ فإن تقلص وتضاؤل قدرة الأفراد والمجتمع على النقد الفاعل لأداء السلطات التنفيذية بسبب عدم توفر آليات الرقابة المجتمعية، ومنها مثلاً رقابة المنظمات غير الحكومية وعدم إتاحة المعلومات، والتوسع في فرض الاستثناءات (القيود) على حرية التعبير، وفرض القيود على التجمعات العامة (سواء بقانون أم من خلال الممارسات غير القانونية)، يجعل من الأداء الحكومي العام جزيرةً شبه معزولة لا يصلها أفراد المجتمع، وتصبح هذه القيود بمثابة أسوار شائكة ليس من شأنها فقط منع أفراد الجمهور من الوصول (التواصل) مع الأداء الحكومي، بل من شأنها أن تُدمي أيدي كل من ترغب أو يرغب في الاتصال (نقداً) مع هذا الأداء.

4.3. جنوح السلطات لفرض مزيد من التدابير المُقيدة

4.3.1. ومع كل انحسار في مساحات التعبير، والتجمع والقيود على التنظيم الحر، تجد السلطات أن من السهل فرض مزيد من التدابير المُقيدة على نشاط أفراد المجتمع في المجالات الثلاث، وتنشأ علاقة عكسية يترتب عليها اتساع دائرة القيود المفروضة مع كل انحسار في مساحات ممارسة النشاط الحر المستقل في أي من المجالات الثلاث، مع الأخذ بعين الاعتبار الترابط شبه العضوي بين كل من حرية التعبير والتنظيم والتجمع العام.

4.4. تجذر بيئة من الخوف والرهبة والإحجام عن المشاركة في أوساط الجمهور

4.4.1. والإحجامُ عن المشاركة الطوعية في أنشطة من شأنها الرقابة على أداء السلطات التنفيذية، أو نقدها، أو الاعتراض عليها بشكل سلمي له ما يبرره. فالقيود المفروضة، سواءً من خلال قوانين تتعارض مع المعايير الدولية الراسخة المتعلقة بحرية التعبير والتجمع والتنظيم، أو من خلال ممارسات تخالف في جوهرها القانون؛ ترتبط أساساً مع منظومة عقابية تشمل الغرامة، أو الحجز أو السجن، وقد تشمل في أحيان عديدة “مُضايقات” تُنمي الإدراك الواعي بالمخاطر التي قد يتعرض لها الأفراد جراء الانخراط في العمل التطوعي المستقل العام.

4.4.2. وفي غياب لشبكات التضامن المجتمعي التي من شأنها الانتقاد والاعتراض على أي إجراءات تعسفية تُتخذ بحق أفراد يساهمون في العمل العام من خلال تعبيرهم عن آرائهم أو تنظيمهم لتجمعات عامة أو تأسيسهم لروابط وتنظيمات مستقلة، يتحول هؤلاء الأفراد إلى رموز معزولة يسهلُ الإضرار بها من دون أي أثر أو ضجة.

4.4.3. ومن شأن تنامي الإحجام عن الانخراط الفاعل في التداول في الشأن العام، أن يُضيع أي فرصة أو مساحة لنقاش المخاطر المُحدقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجمهور.

4.4.4. ومن نافل القول أن ذلك كله يقود إلى انكماش ملحوظ جداً في استخدام آليات الاحتجاج السلمي المشروعة، مؤسِساً في الوقت ذاته لموجة عارمة من فقدان الأمل في أوساط متعاظمة من الجمهور بالتنمية والانفتاح السياسي.

4.5. تعاظم نفوذ نخب سياسية واقتصادية معينة تحتكر مساحة العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي

4.5.1. من أبرز مميزات البيئة التي يختفي فيها الجمهور عن مساحة العمل العام المستقل، أنها بيئةٌ مُعتمة، يندرُ فيها النقدُ للممارسات غير القانونية وغير العادلة، وإن توفرت مساحات غير اعتيادية لممارسة هذا النقد (وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً)، فإن مثل هذا النقد غالباً غير “فاعل”، بمعنى أنه غير منهجي وغير مُستند إلى معلومة مُثبتة، ويتمُ غالباً في مناخ من فوضى التبادل والتراشق غير المحدودين. ومن شأن بيئة تُجرمُ النقد، كسمةٍ غالبة لنظامها القانوني، أن توفر “الحماية” للممارسات التي تخالف وتنتهك مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

4.5.2. إلا أن تعاظم نفوذ ما يُسمى بـ “النخب” في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يرتبط أساساً بقدرة أفراد، دون غيرهم، ولأي سبب ما من الأسباب، يعود إلى الاستفادة من انعدام الرقابة الجماهيرية على أداء السلطات العامة، وغياب المُحاسبة المنهجية؛ وإحراز منافع ومكتسبات تتغذى على نهج عام من انعدام تكافؤ الفرص، والإفراط في استخدام الصلاحيات التقديرية، والانتقائية، وهي أمور تجعل من هؤلاء الأفراد في موقع الأفضلية مُقارنة بعموم الأفراد في المجتمع، وعلى نحو تمييزي يُخالف القانون.

الفريق المستقل لحقوق الإنسان
مجموعة من خبراء حقوق الإنسان المستقلين المعنيين بالمشاركة بشكل تطوعي في رسم وتطوير سياسات وطنية تقوم على احترام وحماية حقوق الانسان في الأردن

أعضاء الفريق
د. أيمن هلسا
فادي القاضي
د. عايدة السعيد

عناوين اتصال
jorightsexperts@rightscable.com