Arabic أزمات راهنة تـعـلـيـق ما وراء مجرد الخبر

متاهاتُ ما بعد الوباء تبدأ من الآن: الاقتصادُ يوميُ الطابع عبءٌ يؤسس لارهاقات عميقة في قادم الأيام والضروراتُ تُحتمُ الانتقال من منظومة “الأزمة” إلى إدارة “التكيُف”

يكتب: فادي القاضي
ليس بوسع الحكومات، والمقصود أيُ حكومة في هذه المنطقة، الخروج من متاهة الوباء الحالية، أو استشراف المرحلة التي تليه، باستخدام نفس الأدوات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي دأبت على استخدامها قبل ذلك. وأياً كانت درجة استجابة الحكومات، وفاعليةُ استجابتها ونجاحها في الحد من انتشار الوباء، والتقليل من أخطار الصحة والسلامة العاملة اللتان يجلبهما فيروس كورونا؛ فإن ذلك بحد ذاته لا يوفرُ أسباباً للقناعة بأن لديها حالياً ما يكفي ويشفي من التخطيط المُلائم للإطلال على الفترة التي تعقبُ انحسار الوباء واستعادة حركة المجتمع التي شلها الوباء.

إن كان من الضروري، أحياناً، وبحسب المقام، الاشادةُ بالنهج الذي اختارته بعض الحكومات في المنطقة العربية للتعامل مع الوقائع التي خلفها اجتياحُ الوباء، فمن الضروري أيضاً الإشارة إلى أن هذا النهج اتسمَ غالباً بـ “التعلم من سياق الفعل” أو بعد اتخاذ الإجراءات؛ وهو نهجٌ شجعته قيادة منظمة الصحة العالمية في شهر مارس/آذار بعد أن أعلنت رسمياً أن فيروس كورونا المُستجِد هو “وباء”. وحينها، طالب المدير التنفيذي للمنظمة الحكومات وصانعي القرار وواضعي السياسات الى “عدم التردد” بحجة الخوف من الوقوع في الخطأ، لا سيما أننا نتعاملُ مع مرض غامض الأبعاد والهوية.

وقد يكونُ ذلك النهج *الوقائي* أصابَ من النجاح قسطاً هاماً في شقه الصحي والمتعلق بالحفاظ على السلامة العامة. وشمل في معظم أوجهه اتخاذ قرارات بإغلاق شامل لمناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية؛ وفرض حظر التجول بشكل كامل أو جزئي؛ تعطيلاً للتعليم في المدارس والجامعات؛ وإغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية؛ وفي بعض الأحيان عزل بلديات ومحافظات عن باقي البلاد؛ ومنع التنقل بين المدن؛ وإجراءات أخرى ذات طابع إداري ولوجيستي كان هدفها جميعاً الحد من انتشار الفيروس ومنعه من التحول إلى كارثة تًطيحُ بالمنظومة الصحية (الهشة أصلاً) وتضعُ البلاد في أتون مهلكةٍ وحدهُ الله يعلمُ كم ستُبقي من البشر والبلاد.

إلا أنَ ذات القسط من النجاح على الصُعد الأخرى يبقى رهناً لقياس الآثار متوسطة المدى لحجب النشاط الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع (انطلاقا بطبيعة الحال من أن لا حياة سياسية ليتم تعطيلها أصلاً).

ومن الآثار قصيرة الأمد والعاجلة لتوقف دوران عجلة الاقتصاد وأنشطته؛ أن الناسَ لم تعُد تعمل.

وفي هذا عبرةٌ كبيرة. في بلدان مثل الأردن والتي يُشكلُ قطاع الخدمات فيه ما نسبته 68% من الناتج المحلي، تقفُ المسألة إلى حدٍ عظيم على مقدرة أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة؛ المطاعم وصالونات الحلاقة والمكتبات الصغيرة ومحلات بيع الألبسة وبيع الزهور والمقاهي والكثيرُ غيرهم ومثلهم؛ على العودة للمنزل كل يوم بحصيلة من الدنانير، كثُرت أم قلت، تكفي حاجات اليوم واليوم الذي يليه، ولربما تسهمُ أيضاً في تغطية النفقات الأساسية وأجور العاملين وإيجار الموقع وغيره.

وفي هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية مشكلة في ظل ظروف قاهرة مثل اجتياح الوباء. وتبرز مشكلته الأساسية في أنه اقتصادٌ “يومي” الطابع يرتكز بشكل أساسي إلى توفير خدمة يطلبها مُستهلكٌ قادرٌ على شرائها؛ وقادرٌ أساساَ على الوصول إليها وطلبها في المقام الأول. صحيحٌ أن منهج ذلك النمط الاقتصادي ما زال قائماً على مبدأ اقتصاديات السوق المُتمثلة في العَرض-و-الطَلب؛ إلا أنهُ يتجهُ لمنحى تراجيدي حين تختفي مساحة الحراك في السوق؛ أو أن لا سوق أصلاً قائمٌ في هذه اللحظة من الزمن.

ومن المفهوم في هذا السياق أن الكابوس الأكبر يكمنُ في الكيفية التي سيحصلُ من خلالها المشتغلون والمُنتفعون من الأشغال والأعمال ذات الطابع الخدمي على ما يكفيهم لابتياع الحاجات الأساسية ومواجهة متطلبات العزل المنزلي وتجنب المخالطة والحفاظ على التباعد الاجتماعي ومتطلبات حظر التجول وإغلاق الأعمال؛ ونحنُ هنا لا نتحدثُ بأي حال من الأحوال عن المستقبل. المستقبلُ شيءٌ آخر نملك القليل من الأفكار عنه، على الأقل الآن.

السيولة وليس الوفرة

ومن شأن التوجه لمحاولة تأمين سيولة نقدية أن تضع بعض المال في جيوب وأيدي المُتضررين من الانقطاع الاقتصادي. لكن هناك على الأقل ثلاثُ مسائل تتعلق بتلك السيولة؛ أولها على الأرجح سرعة وكفاءة توفير السيولة (بغض النظر عن مصدر توفرها). والمقصودُ بالكفاءة هو احتساب عامل مرور الوقت بدءاً من لحظة إغلاق الأعمال، مروراً بالآلية التي سيتم من خلالها التعرف على هؤلاء المُتضررين، وصولاً إلى جدولة وتصنيف سماتهم وخصائصهم ووضعهم على “كشوفات” أو جداول.

وفي مسألة كفاءة الآلية، هناك مُعضلاتٌ لا يُمكنُ لأي إدارة عامة تجاهلها أو التغلب عليها بسهولة، ولعل أبرزها أن أي آلية حكومية ستكون بالضرورة المُطلقة “بيروقراطية” بُحكم أن هذه هي طبيعة عمل جهاز الإدارة العامة. والمقصود بذلك، أن هناك مراحل للتخطيط وتصميم الآلية وجمع البيانات والمُعطيات وتكليف الفرق بالتنفيذ وتقييم الأداء، من خلال قنوات تراتبية، تسلسلية مهما قل أو زاد عددها. وإن كان هناك أيُ نجاحٍ لأي آلية ما في الوقت الراهن، فهو نجاحٌ لَحظي يجب أن يخضع للتقييم المستمر والتعديل بما يقتضيه الحال.

والمسألة الثانية المتعلقة بوفرة السيولة، هي أنها، وإن توفرت على نحو عاجل؛ إلا أنها ستتوفر لمرة واحدة غالباً، ولربما مرة واحدة فقط، وقد تفي بمتطلبات وأغراض عاجلة ومؤقتة؛ إلا أنها ليست خياراً قد تستطيعُ الحكومات اللجوء إليه لأكثر من مرة؛ وخيارٌ لا يستطيعُ المُتضررون الاتكال عليه لأكثر من ذلك؛ وجُلُ المسألة يكمنُ في أن عدم وجود شبكات الحماية الاجتماعية-الاقتصادية على نحو راسخ ومُستقر، كجزء ثابت من مبادئ التشغيل الاقتصادي في البلاد، هو مُشكلةٌ قاتلة.

وثالثُ المسائل، هو أن أي سيولة قد تتمكن الحكومات من توفيرها للأفراد المتضررين، حتى لو افترضنا أنها شملت أغلبية المتضررين، هي سيولةٌ قليلة الحجم، وفي أحسن الأحوال هي الوجهُ الأبرزُ لما يمكن تسميته بـ اقتصاديات “الكفاف” والتي لا يجب أبداً النظر إليها باعتبارها حالة دائمة. وحين نقول قلة “حجم” السيولة فنشيرُ بذلك عملياً الى الارتباط الموضوعي بين كمية المال (السيولة) الممنوحة وتكاليف المعيشة والأسعار التي ما زالت على الحال الذي كانت عليه قبل اجتياح الوباء.

لكننا طبعاً لا نستطيعُ تناول الضرر الاقتصادي من خلال أدوات السيولة العاجلة فقط. ويعودُ هُنا شبحُ الاقتصاد المبني على الخدمات ليُطلَ على المشهد على نحو مُقلق ٍ طارحاً في الوقت ذاته متاهةً مُتعددة الاتجاهات.

“الصُمود” الاقتصادي في زمن الوباء

إن كان الوباءُ والمراحل التي تليه ستضعنا جميعاً في متاهة كبرى؛ فيبدو أن أولى الطروحات الإشكالية في قلب المتاهة تتعلقُ بـ “الصمود”.

إن قارنا بين مُتطلبات الحفاظ على الصحة العامة والسلامة العامة في مواجهة اجتياح الوباء، والتي تقومُ أساساً (مع غياب اللُقاح) على التباعد الاجتماعي وتقليل الاختلاط، وبين المتطلبات الطبيعية لقطاع كبير من الأعمال الصغيرة والمتوسطة، لوضعنا أنفسنا في بداية خارطة المتاهة.

ومن الواضح أن الأشغال والأعمال والتجارة والصناعة والخدمات، أياً كان نوعها وطبيعتها، والتي تعتمدُ على “التقارب” أو تتطلبُ وجود مقدم الخدمة وطالبُها على مسافة قريبة أو لصيقة من بعضهما البعض، سيكونُ من الصعب، وأحياناً من المعقد جداً، وضعُ تصور لعودتها للعمل في ظل متطلبات الصحة والسلامة الصحية الراهنة.

وفي غياب دواء وعلاج دوائي لفيروس كورونا المُستَجِد، فإن مُتطلبات السلامة الصحية تبدأُ من دائرة حماية أكثر صرامة تتمثلُ في: العزل والحجر المنزلي والبقاء في المنزل والحد من الاختلاط. إلا أن متطلبات الحماية التي تفترضُ أن لا مفر من الاختلاط تقومُ على عنصرين، أحدهُما يتمثلُ في الإبقاء على مسافة لا تقل عن متر، وتتشدد بعض الجهات في اشتراط مسافة متر ونصف أو مترين، بين الشخص والأخر، وهذا هو الوصفُ التقني لفكرة “التباعد الاجتماعي”؛ في حين يتلخصُ العنصر الآخر في ضرورة تجنب التنفس أو العطس أو السعال في وجه الأشخاص الآخرين المُحطين. ويترافق طبعاً مع أي نوع من المتطلبات آنفة الذكر، ضرورة مراعاة النظافة العامة والتعقيم وغسل اليدين باستمرار وتجنب لمس العينين.

لكن هناك جملة واسعة من الأعمال تنتمي لطائفة الأعمال الصغيرة، ما لا يلزمها أصلاً أي ُ تواجد لمُقدم الخدمة وطالبُها. وهي مُرشحةٌ أكثر من غيرها للصمود، ربما ليس وفقاً لقواعد العرض والطلب؛ ليس الآن على الأقل.

ولنتذكر أن الاستعراض الذي نقومُ به، يُركزُ فقط على المقاربة الاقتصادية-الصحية ومتطلبات السلامة العامة؛ ولا يأخذ بعين الاعتبار المسائل المتعلقة بالتعسف السياسي، أو السياسات المبنية على التمييز الاقتصادي والاجتماعي، أو الأعباء التي تضعها تلك السياسات من خلال الحُزم الضريبية والرسوم الحكومية، ولا تتطرق هذه المقاربات لمعالجة مقاصد هذه السياسات ونشأتها الاجتماعية والتاريخية كتعزيز نفوذ وقبضة الطبقات الحاكمة والقلة المُنتفعة-المُتنفذة؛ على سبيل المثال لا الحصر.

وأمامنا عددٌ من الأمثلة على أعمال صغيرة تعدُ بالنفع الدخل والرزق على مئات الآلاف من البشر في المجتمع. ولقياس تأثير انقطاع هؤلاء عن العمل -وبالتالي الحصول على الدخل- على اقتصاديات المُجتمع (وهو ما سيراه الاقتصاديون لاحقاً باعتباره انخفاضاً وتدهوراً في الناتج المحلي الإجمالي)؛ لابد من تناول أرقام تحصي أعداد هؤلاء، بحسب المهنة ونوع العمل، وتوادهم في سوق العمل.

وفي الأردن، على سبيل المثال، تعطي أرقام دائرة الاحصاءات العامة، للعامين 2018 و2019 صورةَ تقريبية (وليست بالضرورة مطلقة الدقة أو في غاية الدقة) عن وضع قوة العمل في “السوق” المحلي. ونظرنا على سبيل المُقاربة الى شريحة إحصائية تتناول ” الأردنيين الذين أعمارهم 15 سنة فأكثر حسب حالة النشاط، المهنة الحالية والسنة”.

وتضعُ هذه الشريحة الإحصائية فئة عريضة تحت مُسمى “عاملو البيع والخدمات” من المفترض أن ينضي في إطارها تجمعٌ للعاملين في الأسواق، في الصالونات، في محلات بيع التجزئة، في المقاهي، في المطاعم، وما ماثلها وشابهها وتوافق مع خصائصها. وبحسب هذه الإحصائية كان هؤلاء، ذكوراً واناثاً، ما يُقاربُ 440,614 من المشتغلين وقت تنفيذ الإحصائية، في عام 2019. في حين قارب عددهم 440,982 في عام 2018، وبما يعني انخفاضاً في حجم قوة العمل بنسبة 0.08% ]قد[ يرجعُ تفسيرها لتباطؤ في نمو أو استمرارية بعض أنواع الأعمال الخدماتية الطابع، أو خروج بعض المُشغلين من سوق العمل كلياً. إلا أن هذه النسبة القليلة ليس بمقدورها توفير تفسير دقيق لحالة أعمال “البيع والخدمات” من دون تناولها في سياق سير الأعمال بشكل عام في السوق المعني.

لكننا نُريدُ أن ندمج الشريحة سالفة الذكر، مع أخرى قدمتها دائرة الإحصاءات العامة في الأردن تحت مُسمى “الحرفيون والمهن المرتبطة بهم” والذين كان عددهم في 2018 ما يقرب 174,468 وانخفض في العام 2019 الى ما يقرب 169,395 وبما نسبته 2.91%.

وتتوجبُ الإشارة هنا، بالرغم من أن هدف هذه القراءة المتواضعة ليست التمحيص في البطالة وأسبابها وتداعياتها، إلى أن نفس الدائرة الحكومية في الأردن قد أشرات في وقت سابق إلى ارتفاع معدل البطالة خلال الربع الرابع من عام 2019 بنسبة 19.0 %.

ونريدُ أن نُضيف الى الشرائح سابقة الذكر ثالثةَ، هي “العاملون في المهن الأولية” وهم أولئك الذين يقومون بأعمال في مهن البيع والخدمات الأولية تتصل بالبيع في الشوارع والمنازل أو كباعة متجولين ويؤدون مهام التنظيف وما ماثلها وشابهها ويقومون بحراسة الممتلكات والرعاية الأولية ويوزعون السلع والرسائل ويقومون بأعمال التحميل. وفي عام 2018 بلغ عددهم ما يقرب 86,872 من الذكور والإناث في حين ازداد عددهم في 2019 إلى ما يقرب 94,089 بما نسبته 8.31%.

ويُشكلُ مجموع الشرائح الثلاث، وحدها، دون العاملين أو المشتغلين في القطاعات والأعمال الأخرى (كالتعليم مثلاً)، ما نسبته 44% من قوة العمل في الأردن والتي يقدرُ تعداد أفرادها بمليون وستمائة ألف من العاملين والعاملات. وإن طبقنا معادلةَ تقومُ على فرضية أن هذه النسب صالحةٌ لاحتساب حجم المُنتفعين من دخول العاملين في المجتمع؛ فإن دخول هذه الشرائح الثلاث هي مصدر رزق ودخل 4,576,637 من السكان في الأردن (44% من التعداد العام للسكان البالغ بحسب آخر إحصائية 10.4 مليون).

الصمود الاقتصادي والمقاربة مع متطلبات الصحة العامة

لكي تستقيم أطروحة إعادة فتح أسوق العمل وتشغيل الاقتصاد، فيلزمُ أن يرتبط ذلك بقواعد أساسية؛ منها أن أي دولة أو مجتمع يسعى للعودة للعمل، قد أنشأ سلفاَ نظاماً للحماية الصحية والسلامة العامة في مواجهة الوباء يرتكزُ إلى الآتي:

  • اجراء الفحوص للكشف عن إصابات الفيروس بشكل منهجي وليس عشوائياً
  • توفر آلية لتقصي الاشتباه بوقوع الإصابات جراء للاختلاط مع توسيع أفقي وعامودي للاحتمالات.
  • اشتراط الالتزام بالحماية الشخصية والفردية (قناع الوجه مثلاً) على شكل تشريع أو قانون في أماكن توفير الخدمات أو تلك التي تحتوي على منافذ بيع وشراء وتحصيل وتزويد لكل من الباعة والمُستهلكين.
  • توسيع دائرة المراكز الطبية والعلاجية القادرة على استقبال حالات الإصابة بالفيروس (والمقصود هو تأهيل ما هو موجود في القطاع العام والخاص واضافة المزيد).
  • وضع إجراءات اقتصادية ومالية من شأنها اتاحة فحوصات الكشف عن المرض والتزود باحتياجات التعقيم الشخصية بشكل شبه مجاني؛ واعفاء كافة مستلزمات التعقيم المستخدمة في أماكن العمل التشغيل من أي ضرائب مباشرة أو غير مباشرة أو رسوم جمركية أو ما شابهها وماثلها.
  • القيام بحملات ترويجية على نطاق واسع لحث من يشتبهون بإصابتهم بالفيروس على العزل الذاتي المنزلي على أن يرتبط ذلك بنظام حماية ورعاية ومُتابعة تشهر عليه الدولة لضمان تزودهم بالطعام والغذاء والماء والدواء وبما لا يجعلُ من العزل عقوبة أو مَشَقة أو توفير بدائل رخيصة للعزل في أماكن مختارة تشرف عليه الدولة لمن لا تتوفر لديهم أماكن سكن تتيح العزل الذاتي.

وما يلزمنا هو النظرُ لما يمكن تنفيذه من المتطلبات سابقة الذكر وبالسرعة القصوى. ومن المفهوم أن مسألة اجراء الفحوصات على نحو أوسع بكثير مما هو جارٍ الآن، تعوقها العديدُ من المسائل؛ قد يكونُ من ضمنها التكلفة والجاهزية وإتاحة الوصول لأماكن الفحص في المناطق النائية وخارج مراكز التجمعات السكانية الأساسية.

إلا أن تلك الدرجة من اليقين بأن شخصاً ما، او مجموعة من الأشخاص، هم خالون من الفيروس، لا مفر منها، لضمان تشغيل الأعمال على نحو لا يُلحقُ الضرر بمن يشتغلون في بيئة العمل، وبالتالي المجتمع. ولنتذكر أن أبرز خصائص الفيروس هو سرعة انتقاله من شخص لآخر على نحو تضاعُفي مُضطرد وسريع. كما أن ما تعلمناه في الأسابيع الأخيرة من أن عدم ظهور أعراض المرض قد لا يعني بالضرورة الخلو من الفيروس، وقد يعني وجود ناقلين “صامتين” للفيروس حتى من دون علمهم.

اليقينُ هو الفحص وعلى نحو منهجي. وإن نظرنا إليه باعتباره نظاماً قائماً بحد ذاته، فقد يتطلبُ اجراءه على نحو مُتكرر، وثابت في أوقات ترتبطُ بالدخول أو الخروج من العمل. وإلا فلا ضمانة مُطلقاً أن شخصاً دخل الى مكان العمل صباحاً بعد اجراء فحص أكد خلوه/ا من الفيروس؛ قد خرج/ت منهُ مساءاً بإصابة بالفيروس. لا مفر من هذا النظام الصارم في غياب البدائل العلاجية.

ويحتاجُ ذلك في الواقع إلى إدارة تتجاوز فكرة “الأزمة” أو “الطوارئ” تستقرُ كمكون أساسي وجوهري في نظام الإدارة العامة (الحكومة) وأجهزتها؛ وتقومُ مهمتها الأساسية على إدارة وتسهيل مهام “التكيف” مع مرحلة الوباء وصولاً إلى المراحل التي يُصار فيها إلى تطوير وسائل وأدوية علاجية من شَأنها هزيمة الفيروس.

وينتظرنا في المقام القادم دراسةُ فكرتين: الأولى تتعلقُ بخصائص تشغيل بعض الأعمال وواقعية عودتها للتشغيل، وفرصها الحقيقية في تحقيق الدخل والاستمرار. والثانية هي تناولُ مهام إدارة التكيف المقترحة وطرائق عملها.

ملاحظة:
المقال جزء من سلسلة من المقالات والمُطالعات لهواجس ما بعد أزمة الوباء في السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحقوق الانسان. تُنشَرُ تباعاً
تابعو الكاتب على تويتر: fqadi@