فادي القاضي*
حديث الناس بينهم البعض، مخاوفهم، قلقهم، تذمرهم، شكواهم، وانتقال آرائهم وأفكارهم بينهم البعض، ومنهم إلى مجموعة أكبر من الناس، في المجتمع؛ في المقاهي، في المطاعم، على أرصفة انتظار المواصلات العامة، في الفسحة بين الحصص المدرسية، وفي أماكن العمل، وفي أي مكان يمكن لنا تخيله، تشكل في مجموعها محتوىً لما يدور في “الفضاء العام”. وهو ليس ذو شكل هندسي محدد، أي ذلك الفضاء، بل كينونة ممتدة بحسب حجم المجتمع، وأدوات الاتصال فيه، وبحبوحة التعبير (إن وُجدت).
في الفضاء العام، تجري الأحاديث، المنهجية منها، وتلك التي لا تحكمها أيُ مسطرة: هناك قد نجدُ ما يُحكى عن شأن بات يَهمُ عدداً كبيراً، أو متزايداً، من الناس، فنُطلقُ عليه “شأناً عاماً”. وقد نجدُ الهزل والمزاح والنكد والمساخر، ونظريات المؤامرة بكافة أشكالها. وبات لدينا في وقتنا الراهن مصطلحاتٌ أُدمجت على نحو يسعى لتأطير ما يُقالُ ويُنقلُ، ويُجادلُ به، وتستخدمه مجاميعٌ من الناس للدلالة على آرائها. ومنها مثلاً “السردية”. ويُقالُ السرديةُ التي يحملها خطابُ سين أو صادر، أو مجموعة أو تجمع ما، تمتازُ بكذا وكذا من الأفكار والمواقف وتم بناؤها على مرجعيات محددة أو أفكار ذات طابع محدد. لكن الأهم في مسألة السردية، هو أنها تعكسُ “الحكاية” التي يحكيها طرفٌ أو جهة ما، وتستقرُ على شكل المفردات والسياق التي يستخدمها (أصحاب السردية) لتداول حكايتهم.
يرتبطُ حجمُ الفضاء العام ومساحته بحجم المجتمع، وليس القيود المفروضة عليه. وبمعنى آخر، فوضع قيود على حرية التعبير، والكلام، والاتصال، ومحتوى ما يُنشر، أو لا يُنشر، والإكثار من التابوهات، والتقليلُ من قنوات التواصل والاتصال، لا يعني تقليصاً لمساحة الفضاء العام، بل ضرباً لتنقل وانتقال الأفكار والرؤى خلاله.
إنهُم لا يُصَغرون الفضاء العام، بوضعهم للقيود، إنما يسعون لغلقه.
وغَلقُ الفضاء العام حكايةٌ ترتبطُ بتنامي الميول السلطوية (الاستبدادية) للطبقات الحاكمة في أي مُجتمع بات يشهد تصاعداً في حجم القيود المفروضة على حرية التعبير. وتميلُ هذه الطبقات لبسط المزيد من نفوذها، وبالتحديد الاقتصادي والمَنفعي منه، وعلى نحو ٍ يقيها ويُحصنها في وجه أي مُساءلة أو حساب، وبما يكفل ويضمنُ استقرار سردية (واهمة بطبيعة الحال) تعكسُ مظهراً وردياً وناصعاً لقبول المجتمع ] الطوعي [ لهيمنة هذه الطبقات وتغولها.
وغلقُ الفضاء العام قد لا يعني بالضرورة نهاية السرديات المضادة والمتعارضة مع تلك التي تفرضها تلك الطبقاتُ قسراً، وبعضُ النتائج غير الحميدة للغَلق، هو تنامي سرديات متوحشة في الظل المجتمعي، وبما قد يُفضي، في لحظة مُظلمة، الى نكسة لا تُضر بتلك الطبقات وحدها، بل بكل المجتمع.
* كاتب وخبير في شؤون الاعلام-المجتمع المدني-حقوق الإنسان